Tuesday, 21 April 2020

فن الممكن و المفهوم المجهري

السياسة في أحد تعريفاتها هي "فن الممكن". من الغير منطقي أن يدفع الشباب في الوطن العربي إلى ممارسة الغير الممكن و نعني بذلك إطار الممارسة العملية المباشرة و صناعة القرارات العامة . هذه دعوة لأن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة. الأولى و في إطار ما هو ممكن توجيههم إلى الإصلاحات في شتى المجالات كالفكر, التعليم، الصحة، و الصناعة.



و على العموم السياسة في تعريف اخر و عند العرب بمعناها هي أصلها من ساس الخيل أي قام برعايته و تدبير شئونه. فمهوم السياسة جميعا نمارسه بطريقة أو أخرى و كلنا نسوس رعية  ما. و هذا ما يمكننا بتسميته ب Micropolitics أو السياسة المصغرة. فالسياسة المصغرة تمارس يوميا سواء في العمل أو حتى في تدبير شئون المنزل. و ربما يكون طرحي لفكرة ال Micropolitics تبدو كفكرة غير مترابطة و لا سياق لها هنا و لكن القصد من طرحه هو التنويه أنه حتى الممارسات السياسية المصغرة و السعي إلى الإصلاح في جميع المؤسسات و منها الأسرة، و التعليم, و الصحة و إلخ فهذه ممارسة سياسية مصغرة بمنظور مجهري و كل محاولة و مهما كانت صغيرة فلها قيمة.  أيا يكن، ما نريد لفت النظر إليه أن السياسية بمفهومها الأوسع هي ليست فرع و لا يجب إهماله و لكن الظروف تحتم ممارستها بما هو ممكن.



و توجيه طاقات الشباب إلى هذه المجالات يساهم في إصلاح المجتمعات بشكل عام، و إذا ما أصلحت المجتمعات يرتفع وعيها و تتحسن فرص المشاركة السياسية و صناعة القرار فيها أيضا.  و الأصل هو التدرج. ربما تكون مناصب صناعة القرار أداة للإصلاح مباشرة و بطريقة سريعة، إلا أننا نعود إلى نقطتنا الأولى و هي الممكن. الواقع يحتم علينا التدرج لا الإصلاح السريع

Friday, 3 April 2020

رحلة الى الساحل الشرقي للولايات المتحدة



في أغسطس من صيف  عام ٢٠١٧ (م)  ذهبت في رحلة إلى واشنطن العاصمة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة الإمريكية للمشاركة في مؤتمر الجمعية الكيميائية الأمريكية ال ٢٥٤. كانت هذه الزيارة القصيرة ذو أثر كبير في نفسي و أعادت ترتيب بعض الأفكار في رأسي. ربما لا يقتصر الأمر على ترتيب الأفكار و حسب، لأكون أكثر دقة لقد أصبحت أرى العالم بشكل أفضل كرؤتي للعالم عندما أرتديت النظارة الطبية لأول مرة.
لم أسافر خارج الرقعة الجغرافية للدول العربية من قبل فأنا لست بشخص كثير السفر في العادة. و لكنني أعرف الولايات المتحدة ثقافيا بشكل كبير. لقد قرأت عن الولايات المتحدة كثيرا، و كنت أعلم عنها الكثير من خلال متابعتي للمسلسلات والأفلام. غادرت الدوحة مع عدد من الأصدقاء و استقللنا طائرة الخطوط الجوية المباشرة الى العاصمة واشنطن و التي كانت مدتها حوالي ثلاثة عشر ساعة. أنا لا أستطيع النوم إلا إذا كنت منهكا تماما. حسنا، لم يبدو الوضع كذلك، لم أنم إلا ساعتان. ربما هو شعور الحماس لزيارة هذا الجزء من العالم الذي يصدر لنا كل شي، و أصبحنا جميعا أتباعا له بطريقة أو بأخرى. أخذت بقراءة كتاب كنت أحمله معي الى الطائرة، و ما إن فرغت منه حتى شاهت فيلما طويلا في محاولة لأن يمضي الوقت. لم يتبقى الا ساعات، أمضيتهم في الحديث مع الأصدقاء الذين كانوا أستيقظوا حيث تحدثنا عن خططنا لدراسة الماجسيتر و ما هي الجامعات التي يمكننا التقديم عليها. و اخيرا بعد طول انتظار وصلنا الى العاصمة واشنطن، معمل السياسة في العالم.  فور هبوط الطائرة و عندما تطأ أقدامك أرض الولايات المتحدة ستلاحظ أن كل شيء كبير و واسع. السيارات، الطرق، المنشآت و كل شيء اخر. أخذنا أستاذ لنا من المطار الى المنزل الذي أستأجرناه، و قرر أن يأخذنا من طريق مليئ بمشاهد الطبيعة الخضراء. كان الأمر بديع أن ترى كل هذه الطرق الخضراء الطويلة. ذهبت مع الأستاذ بعد أن أوصلنا أصدقائي للمنزل لشراء العشاء للأصدقاء الذين قد أنهكهم السفر. حسنا، الشعور لم يتبدد، كل شيء رائع و كبير، كل شيء يبدو مألوفا بالنسبة لي يبدو أن شوارع واشنطن و كأنني زرتها مسبقا. ربما لكثرة الأفلام والمسلسلات علاقة بالأمر. نمنا في المنزل بعد العشاء و في الصباح جميعا أستيقظنا باكرا و قبل طلوع الشمس في حوالي الساعة الرابعة صباحا. يبدو أن الساعة البيولوجية قد اختربت بالفعل. لم يكن أي محل يفتح قبل الساعة التاسعة صباحا باستثناء بعض المطاعم للإفطار. تناولنا الإفطار حينئذ و كعادتنا كعرب فقد حلف أحد الأصدقاء مسبقا بأنه سوف يدفع، و لكن ما إن جاء المحاسب و سألنا إذا ما كنا نريد فواتير مختلفة. بدى الأمر غريبا بالنسبة لنا و لكن بدى لنا أن الثقافة مختلفة هنا. غادرنا المطعم و ذهبنا الى منطقة جورجتاون حيث توجد الجامعة المرموقة. أردنا إلقاء نظرة على المتاجر في الطريق و لكننا فوجئنا بأننا جميعا خرجنا محملين بأكياس من الملابس التي لا نحتاجها. حسنا، يبدو أننا وقعنا في الفخ. هذه الدولة الرأسمالية لا يوجد مكان في العالم أفضل منها في سياسات التسويق. هنالك دائما طريقة هنا لتمد يديك إلى جيبك و تدفع بملئ ارادتك. في الوقت ذاته التي يخرج الناس محملين بالبضائع، ترى متسولين معدومين الصحة و المال لا يلتفت اليهم أحد الا نادرا. ربما سيلتفتون اليك ان كنت تقدم عرض ترفيهي فني أو تعزف بآلة ما. من المتسولين الذين لا أنساهم هو متشرد شاب و يبدو أنه فطن الى لهجتنا العربية، فبادرنا بعبارة "السلام عليكم" و كان هذا الموقف طريف من وجهة نظري. و هنالك حادثة لا أنساها و هي مريضة سرطان يبدو عليها الوهن بشكل ظاهر للعيان و لا يلتفت اليها أحد. لم أكن أتصور أن أرى مريضا للسرطان مقذوف به في الشارع و لا يتلقى الرعاية الصحية اللازمة فقط من أجل المال. أثار هذا الموقف استيائي و دفعني للتفكير طولا. قابلنا عدة متسولين و مشردين اخرين و تولى صديق لنا مهمة محاورتهم. أبدينا انسجاما كبيرا مع نمط الحياة هناك. قلت لأصدقائي عند العودة الى المنزل "ربما نحن جميعا أمريكان بطريقة أو أخرى. لجميع أفراد العالم الحق في طلب الجنسية الأمريكية".
في صباح ثاني يوم، كانت الساعة البيولوجية ما زالت معطلة. أستيقظت لأرى جميع أصدقائي و هم مستيقظين في تمام الرابعة صباحا. كان الأصدقاء يقومون بجولات ليلية لأستكشاف اذا ما يوجد مطاعم أو كفاتيريات تعمل على مدار اليوم كوقت الشاي في الدوحة أم لا. عثرنا في زاوية الحي الذي نقطن فيه على مطعم بيتزا يبيع شريحة البيتزا الواحدة بحجم البيتوا المتوسطة. كان مطعم البيتزا هذا هو المطعم المنشود اذا لم نستطع النوم. تكفل الأصدقاء بالتناوب على هذه المهمة كل ليلة. يبدو أننا فطننا مبكرا بأن الشوارع ليست آمنة كالدوحة. هنالك نمطان من الحياة في هذا الجزء من العالم، واحدة صباحيا و واحدة مسائيا. أما الأخيرة فحيث يستيقظ أصحاب العصابات، و رواد الملاهي الليلية و يرتادون شوارع المدينة، و هنا تكمن خطورة القيام برحلة من أجل شريحة البيتزا العملاقة. عندما تبدأ الحياة بعد الساعة التاسعة كنا نرتاد المعالم المشهورة كالبيت الأبيض و إلخ. هنالك قدر من الحرية التعبيرية حيث أنني كنت أشتم الرئيس الأمريكي على بعد أمتار من البيت الأبيض. مجددا نذهب الى المطاعم و نرى كل شيء كبير و كل شيء واسع يبدو أن ال "سوبر سايز" أو الحجم الكبير هي ثقافة و ليست ملاحظة. مشروب الصودا بالحجم الكبير، البرجر، و كل شيء اخر. كل شيء يبدو كما في الأفلام بالظبط. في اليوم الثالث، ذهبنا لصلاة الجمعة في المركز الإسلامي في واشنطن. لا أعلم، لم تمض أيام كثيرة و لكنني يبدو أنني أفتقدت رؤية المساجد و الشعائر الإسلامية. هذا الشعور كان يساور أصدقائي أيضا. هو شعور بالطمأنينة فقط ربما يطرب صدر المرء من ذوي التكوين الثقافي المشترك من أمثالنا من سماع كلمة "السلام" و هي تنطق بألسنة مختلفة و تعطي نفس المعنى. ذهبنا بعد الصلاة لنتناول وجبة الغذاء بصحبة أحد الأساتذة في مطعم لبناني. كان من المبهج الحديث مع كل العرب- الأمريكان و المسلمين العرب الذين نصادفهم.
قضينا عدة أيام بدوام كامل في المؤتمر العلمي. حسنا لن أبالغ، لكن الصدمة كبيرة في حجم التقدم العلمي و المنظومة العلمية في الولايات المتحدة. أنا في الأغلب ناقد بطبيعتي، و لكن يبدو أننا في العالم العربي نحتاج الى الوقت لكي نصل الى بناء منظمات علمية و نصل الى انتاج علمي بهذا الشكل. لن أخوض كثيرا في الحديث عن المؤتمر و عن ما شاهدته من دراسات للكيمياء في الفضاء الى دراسة كيمياء البروتينات. سأحتفظ بأثر هذا المؤتمر على نفسي ربما لنص اخر في المستقبل. كان من المدهش حقا رؤية الإستثمار في الأفكار و في العلم.
كان من الممتع ان نقضي عدة أيام في الولايات المتحدة و نحن نتنزه في الساحل الشرقي في شكل مثلثي بين واشنطن، شلالات نياجرا، و نيويورك. المتاحف كانت شيء عظيم جدا و خصوصا متاحف التاريخ الطبيعي. اليات الحفظ للتاريخ و محاولة إعادة تصويره هو شيء ذو مجهود جبار. أما نيويرك فهي لربما تحتاج الى نص اخر، و لكن نيويورك هي نيويورك، كما تبدو في الأفلام تماما. رائعة و في نفس الوقت بشعة، تتجول في الشوارع و ترى جميع العروض الحية و التقديمية من الفنانين الذين يطمحون للشهرة على الأرصفة، الى الدعايات الكبيرة على واجهات المباني، الى الأضواء الكثيرة. و لكن نيويورك كل شيء متوفر و كل شيء بالمال. ربما لم أتوقف في نيويوك الا لتناول الطعام. لم أشئ أن أغادر نيويورك من غير تناول الطعام من العربات في الشارع كما كنت أشاهد في الأفلام، لمحت عربة مكتوب عليها حلال و تبيع الهوت دوغ. و وجدت صاحب العربة من جنسية عربية و تجاذبنا أطراف الحديث. في المساء ذهبت الى المتحف الميتروبوليان و أطلعنا على الكثير من اللوحات لفان جوخ و بعض الأثار من حضارات شرقية. في نيويورك، الكثير من البشر و كل في طريقه لا يلتفت إلى يمينه أو يساره. ربما ترى المشردين في شوارع نيويورك ينامون في منهاتن على الأرض على أبواب الكنائس، و لا تعبئ الكنيسة بهم و لا الناس.

حدث و أنني قد نسيت أن أخبر البنك في الدوحة  أنني سأستعمل بطاقة البنك في أكثر من ولاية و لهذا لم تكن تعمل في كثير من الأحيان في نيويورك و لسبب أجهله. أضظررت أن أكمل اليوم في نيويورك بأربع دولارات فقط في بطاقة الأنترنت و دولاران في جيبي. كان وقتها معي صديق واحد مقيم في الولايات المتحدة في نيويورك بعد أن عاد الجميع الى واشنطن. كان الشعور غريبا بعض الشيء أن تحاول أن تقضي يومك في نيويورك بستة دولارات فقط. لم أخبر صديقي عن حادثة البطاقة حتى لا يعطيني المال و لكنني وددت أن أجرب شعور من لا يملك المال لنصف يوم في نيويورك بعد أن تعطلت بطاقتي. كنت أراقب الحياة من هذا المنظور، لبضع ساعات فقط بالرغم من أنني لم أحتج المال فلقد أشترينا تذاكر المتاحف و كل شيء مسبقا. كانت نيويورك ممتعة و لكن لا أظن أنني كنت أستطيع العيش فيها من غير المال لأكثر من ذلك، فصديقي تكفل بشراء تذكرة القطار لي و الإفطار ثاني يوم بالرغم من أنني لم أخبره عن حادثة البطاقة.  و في محطة القطار ذهبت الى مطعم دانكن دونتس و طلبت من البائع أن يعطيني أرخص قهوة لدية فأعطاني قهوة بحوالي دولارين و أشفق الرجب علي و أعطاني حلوى الدونات بالمجان. ربما هذا الفعل الكريم منه بسبب سؤالي عن أرخص قهوة. عدت من محطة القطارات في واشنطن الى المنزل بأربعة دولارات بالتمام و الكمال الذين كانوا في بطاقة الأنترنت. حسنا أصبحت مفلسا تماما. تكفل صديق لي بدفع كل الأشياء عني و حتى الهدايا التذكارية التي وددت أن أشتريها من واشنطن. طلبت من الأهل أن يرسلوا لي أموال بشكل نقدي بما أن بطاقة البنك لا تعلم، و لكن صرافات استلام و تحويل النقود لا تعمل في عطل نهاية الأسبوع، و عندما عدت إلى واشنطن رفضت الصرافات أن تعطيني المبلغ بالرغم من تأكدهم من هويتي لأن العنوان كان نيويورك. أكتشفت وجه اخر للولايات المتحدة و هي البيروقراطية المفرطة. كانت تجربة المعيشة من غير نقود الى يوم الرحلة الى الدوحة اذا هو أمر مقدر لأرى الحياة في الولايات المتحدة بشكل أفضل، بالرغم من أنها كانت تجربة محكمة، حيث أنني إذا ما طلبت نقود من أصدقائي كانوا سيمنحوني.
رحلتي إلى الولايات المتحدة كانت مثرية، و لربما أدق وصف يمكنني أن أوصفه هو المشاهدات هناك أشبه بآرتداء نظارة طبية لأول مرة. يقول صديق لي أنني عندما كنت دائما أتحدث عن الولايات المتحدة، كانت هنالك لمعة في عيني خفتت مع عودتي منها. الحقيقة أنني عدت بمشاعر مختلطة، أنبهرت بالتطور الصناعي، التنكنولوجي و العلمي، و لكنني لم أنبهر بالحياة هناك. المادية المفرطة في الولايات المتحدة بدأن تتجلى بوضوح أمامي. طبيعة المجتمع في الولايات المتحدة و الفردانية المطلقة هو شيء لم أعتده و لم أعجب به. المعاملات النسانية في حد ذاتها رأيتها عبارة عن صفقات و عليك أن تتعلم فن التفاوض لتعيش. هذا ما يسميه عبدالوهاب المسيري بالمجتمع التعاقدي. عدت الى الدوحة بعدة دروس أعادت ترتيب الكثير من الأفكار في رأسي الى يومنا الحاضر.